يقول: "ومن تتبع الأحاديث الصحيحة وجد فيها من هذا الجنس ما يوافقه".
أي: فهذا أصل دلت عليه عدة أحاديث: حديث
حذيفة -الذي ذكرناه- في الرجل الذي أوصى أولاده بأن يحرقوه.
ومن ذلك ما ذكره قال: "كما روى
مسلم في
صحيحه عن
عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: {
ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: بلى: قالت: لما كانت ليلتي التي النبي صلى الله عليه وسلم فيها عندي، انقلب فوضع رداءه وخلع نعليه، فوضعها عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه واضطجع ...} ".
فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ كأنه يتهيأ للقيام.
قالت: {
فلم يثبت إلا ريثما ظن أني رقدت ...}".
أي: حتى ظن أن أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها رقدت، وهي لم تكن نامت، وهذا يدل على أنه كان لا يعلم الغيب، خلافاً لأولئك الذين يكفرون بآيات الله، ويكذبون الله ورسوله، ويقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب.
قالت: " {
فأخذ رداءه رويداً}" أي: سحب الرداء بهدوء.
" {
وانتعل رويداً، وفتح الباب رويداً، فخرج، ثم أجافه رويداً}".
أي: أغلق الباب رويداً.
{
قالت: فجعلت درعي في رأسي، واختمرتُ وتقنعتُ إزاري، ثم انطلقت على أثره حتى جاء البقيع ...}"، أي: المقبرة، ليتذكر الموت، ويزكي نفسه، ويدعو للموتى كما قالت: {
فقام، فأطال القيام ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت، وأسرع فأسرعت، فهرول وهرولت ...}" وذلك أنها رضي الله تعالى عنها تخاف أنه يصل قبلها فلا يجدها، لأنه ما علم بها صلى الله عليه وسلم.
{
قالت: فسبقته، فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت، وإذا به صلى الله عليه وسلم قد دخل فقال: ما لك يا عائشة؟ قلت: لا شيء، قال: أخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير، قالت: قلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي فأخبرته! فقال: فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟ قلت: نعم! فلهَزَنِي في صدري لهزةً أوجعتني، ثم قال: أظننتِ أن يحيف الله عليك ورسوله؟!}"، ومعنى يحيف: يجور، وهذا هو الشاهد من الحديث؛ إذ ظنت أن يجور عليها فيعطي ليلتها لغيرها من نسائه.
{
... قالت: قلت: يا رسول الله! مهما يكتم الناس يعلمه الله؟ ...}".
أي: أهذا الخاطر الذي خطر في نفسي أنك ذهبت عند أحد أزواجك يعلمه الله؟
{
... قال: نعم. قال: فإن جبريل عليه السلام أتاني حين رأيت، فناداني فأخفاه منكِ، فأجبتُه وأخفيتُه منك، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعتِ ثيابكِ، وظننتُ أنكِ رقدتِ، وكرهتُ أن أوقظك، وخشيتُ أن تستوحشي}".
أي أنه لو أيقظها وقال: لا تخافي، لربما خافت، لكنه تركها تنام حتى يرجع، لكن هي رضي الله تعالى عنها خافت أن يذهب إلى غيرها من أزواجه، لما رأته فعل ذلك.
"{
فقال: -أي: جبريل عليه السلام- إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع، فتستغفر لهم}، ولم يكن من عقيدة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيف عليها، أو يترك ليلتها ويخدعها ويذهب عند غيرها، فهي لا تظن ذلك ولا تعتقده؛ لكن يأتي أحياناً خاطر خفيف جداً فتسأل عن هذا الخاطر العابر الذي لا يكاد الشخص يعتقده، أيعلمه الله؟ قال: نعم! يقول: سبحانه تعالى: ((
وَهُو بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ))[البقرة:29]، وقال:((
يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى))[طه:7]، أي: وما هو أخفى من السر، وهو أنه يعلم السر قبل كونه سراً، فـ((
لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ))[آل عمران:5] سبحانه وتعالى.
{
... فقالت: كيف أقول يا رسول الله؟}" أي: عند زيارة المقابر {
فقال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله للاحقون ...}".
قال
ابن تيمية: "فهذه أم المؤمنين
عائشة رضي الله تعالى عنها، سألت النبي صلى الله عليه وسلم: هل يعلم الله كل ما يكتم الناس؟ فقال لها النبي صلى الله عليه سلم: نعم!.
وهذا يدل على أنها لم تكن تعلم ذلك، ولم تكن قبل معرفتها بأن الله عالم بكل شيء يكتمه الناس كافرة".
أي: لم تكن رضي الله تعالى عنها قبل أن تعلم هذا من النبي صلى الله عليه وسلم كافرة، وحاشاها رضي الله تعالى عنها من ذلك، فهي تستفهم وتسأل، لأنها كانت تجهل، فأمرٌ تجهله سألت عنه فعلمته، ولو كان الجهل به يقتضي الكفر لكانت قبل أن تسأله كافرة.
قال: "وإن كان الإقرار بذلك بعد قيام الحجة من أصول الإيمان" أي: فالمخاطب بعد أن تبلغه الحجة يصبح إقراره بأن الله بكل شيء عليم من أصول الإيمان، وليس من فروعه، ولذلك فـ
القدرية الذين أنكروا العلم كفار، وقد قال
الشافعي و
أحمد رضي الله تعالى عنهما: (ناظروا
القدرية بالعلم)، فمن أنكر علم الله كَفَر؛ لكن أن يظن الإنسان أو يتوهم أن بعض الشيء من العلم قد يخفى على الله فهذا لا يجعله يكفر، لكن إذا سأل عنه وعُلِّمَه علمه.